مواضيع أخرى
مقالات
يوم الأحد, 13 تشرين أول 2024
29-08-2017
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: تنوعت العلوم وكثرت الأبحاث حول القرآن الكريم وما يتعلق أو يتصل به، وعلم المتشابه اللفظي من بين تلك العلوم الجلية الذي نشأ ونما على يد العلماء، وأكثر ما يرد هنا التنوع في قصص القرآن، نظراً لأن أغلبها يتكرر في مواضع تتباين فيها الأغراض، حتى أن السيوطي اقتفى أثر الزركشي في وضعه تعريفاً كاد أن يقصره على القصة وحدها فهو يقول: «والقصد به إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة، فتأتي في موضع مقدماً، وفي آخر مؤخراً، كقوله تعالى في سورة البقرة: {وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ} وفي سورة الأعراف: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا} وفي سورة البقرة: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ} وسائر القرآن: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ} أو في موضع بزيادة وفي آخر بدونها.. أو في موضع معرفاً وفي آخر منكراً» [الإتقان 2/94 بتحقيق الأستاذ محمد أبي الفضل إبراهيم ]غير أن الأمر لا يقتصر فقط على القصص مع أنه يكثر فيها وقد وضع ذلك الزركشي بقوله: «وحكمته التصرف في الكلام وإثباته على ضروب، ليعلمهم عجزهم عن جميع طرق ذلك مبتدأ به ومتكرراً ». إن أسلوب القرآن الكريم في تكرار بعض الآيات أو بعض أطرافها بالكلمات المتفقة أو المختلفة دون زيادة أو نقصان أو تقديم أو تأخير، أو بحروف متشابهة نجده حيث تذكر الآية الواحدة ذات الموضوع الواحد في أكثر من موقع مع اختلاف في جوانب التناول قياساً إلى موضعها من سياق الآيات ومكانها من نظم القرآن. لقد قدَّم الدارسون دراسات غنية تنوعت في ذلك ملاحظاتهم.. في كل نوع من أنواع التشابه على حده.. وهذا التنويع في الأسلوب القرآني الذي يأتي بتكرار الآيات القرآنية بألفاظ متفقة أو مختلفة.. لا ينبغي أن ينظر إليه أنه تكرار خال من الفوائد والأسرار بل إن في الأمر حكمة لذلك تجدر دراسته والوقوف عنده بعلمية رصينة ترد أباطيل الجهلاء والطاعنين. إذ أن علم متشابه القرآن من أجلِّ علوم القرآن التي يحتاج إليها الدارس لتفسير القرآن الكريم.. والأهمية تتعلق في إبراز المعاني الكامنة فيما تشابه وتكرَّر من الآيات القرآنية والرد على الطاعنين في القرآن الكريم.. وإن ممّا يهتم به الدارس هو دفع الإشكالات التي في ظاهرها التعارض. وأخيراً يمكننا القول: أن المتشابه اللفظي في القرآن الكريم له أصوله التي من خلالها يتم توجيه المتشابه من الألفاظ، ولعل من أهم هذه الأصول النظر إلى سياق كل لفظة من الألفاظ المتشابهة إذ أن السبيل إلى الفهم النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب ومدلولاتها واستعمالها بحسب السياق أو ما سيق لأجله، فضلاً عن المقابلة بين اللفظ وبين نظيره في موضع آخر.. فآيات القرآن الكريم في المتشابه اللفظي قد تجيء متكررة في القصة الواحدة من قصص القرآن، أو موضوعاته، في ألفاظ وصور متعددة وفواصل مختلفة وأساليب متنوعة تقديماً وتأخيراً.. ذكراً وحذفاً وتعريفاً وتنكيراً، وإفراداً وجمعاً، وإعجازاً وإطناباً، زيادة ونقصاً، وإبدال حرف بحرف أو كلمة بكلمة أخرى ونحو ذلك، مع اتحاد في المعنى وفق السياق.. والنظر في كل ذلك بأحوال الرسول الكريم وسيرته العطرة مع أصحابه وأعدائه وقت نزول القرآن الكريم فذلك ما يعين على المعرفة الدقيقة والفهم المطلوب، لذلك كان وكدنا في إيراد رأي المفسرين واللغويين والبيانيين للوقوف والتعرف على هذا العلم الدقيق الذي امتاز به القرآن الكريم وما تبعه من فوائد وأسرار، ذلك أن التشابه اللفظي هو لون آخر من ألوان الإعجاز في القرآن الكريم حيث تتغاير أبنية الكلام والقصص فضلاً عن التغيير في ترتيب الآيات في الصور المتعددة التي أشرنا إليها كالتقديم والتأخير والتعريف والتنكير وغيرها.. لقد تابعنا في منهجنا لهذا الكتاب أنواع المتشابه التي ذكرها بعض العلماء وصنفوها في علوم القرآن غير أن من يطالع الكتب القديمة هذه والتي تناولت الآيات المتشابهة يجد أن مؤلفيها لم يحددوا أنواع المتشابه وذكروها في الغالب عرضاً.. مما جعلنا نرجع أهمية هذا العلم إلى تأجيل الدراسات القرآنية والعلمية.. كما لا ينبغي التسليم المطلق بكل ما وجه إليه فبعض التوجيهات لا تخلو من نظر أو تحتاج إلى شرح وتفصيل، كما تحتاج إلى تحقيق وتدقيق وفهم، فقد يوجه البعض المتشابه بأدنى مناسبة لذلك ينبغي أن يعمل المتلقي فكر فيها وأن لا يأخذها بإطلاق فلهذا العلم قواعد وفوائده العديدة.. فهو ضرب من التفسير لكلام الله ويأخذ أهميته من علم التفسير وإعجاز القرآن وبلاغته وأسلوبه التي أعجزت العرب على الإتيان بمثله.. مما يدلل على صدق النبوة وتثبيت لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ((وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)) [ هود: 120] وأنت تتأمل في بديع الآيات وبين ثناياها المتشابه اللفظي الذي هو فن من فنون القصص القرآني الذي من مخرجات هذه الفنون الفطنة والعبرة، قال تعالى: ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ)) [يوسف: 111]. منهج كتاب وأخر متشابهات
وجوه الإعجاز في متشابه التنزيل
لقد تتبعنا في هذا الكتاب الآيات المتشابهات على أساس كل سورة من سور القرآن الكريم بدءًا بالفاتحة أم الكتاب وانتهاءً بسورة الناس.. واعتمدنا حصر المتشابهات، وعمدنا إلى ما له نظير في السور الأخرى من ذكر القصص والحروف المتشابهة وغيرها مشيرين أحياناً إلى بيان السبب والحكمة في اختصاص كل آية بما جاء فيها وما تختلف عنه في الآيات المشابهة لها، محتجين بالأصول والأحكام والتفسير، مبينين أسرار التشابه في الآيات، عاملين على جمع النظائر من ألفاظ القرآن ومشيرين إلى الوجوه التي تحتملها ألفاظ الآيات القرآنية الكريمة.. مؤكدين أن هذا المجال الذي يعتني بكتاب الله العزيز يحتاج إلى العديد من الدراسات الموسعة والمعمقة التي تستجد حسب حاجة العصر للرد على طعن الملحدين ويعيد للإسلام معناه الحقيقي من خلال قراءة واعية نتدبر فيها كتاب الله ومعانيه وأن ندرك لغتنا العربية الإدراك اللازم ونجتهد في تأويل الألفاظ بما يتطابق مع قواعدها وبيانها لأن ذلك مفتاحاً لفهم القرآن الكريم وتحرياً لمقاصد الشريعة الإسلامية التي هي غاية المجتهد في ضوء قواعد اللغة التي تستخدم المنطق العقلي لإقامة العقيدة على أساس عقلي راسخ لا تنال منه الشكوك أو تزعزعه الشُبهات، وتدفع بالإنسان على الإيمان والعلم وتحذره من ترك القيم أو التفريط فيها. ونسأل الله القدير أن يكون هذا الجهد هدفاً لخدمة ديننا وعقيدتنا السمحاء، ومواجهة طوفان الشر الذي يحاك بالأمة.. ودعوة إلى ترسيخ مفهوم الحقائق التي جاء بها القرآن الكريم التي هي براهين تكشف لنا المعاني بتأويل يقطع اللبس ويزيله.. ويسد الحاجة في زمن تعدَّدت فيه الوسائل العلمية والتقنية والرقمية.
الشيخ الدكتور
أحمد عبيد الكبيسي
الاثنين في 10 رمضان 1438 هـ.
الموافق في 5 يونيو 2017 م.
|