دار المعـرفة للطباعة والنشر   ترحب بكم     ***   ** جديد **  بعون الله تعالى صدرت (موسوعة الكلمة وأخواتها في القرآن الكريم )12/1 للشيخ الدكتور أحمد الكبيسي     ***   بعون الله تعالى صدرت (مــوســوعـة المعجم المفــهـرس لألفاظ الحديث النبوي الشريف) ضمن 21 مجلد  - لأول مرة في العالم الإسلامي بمنهج علمي موحد     ***   50 عاماً في نشر المعـرفة * * * 50  عاماً في نشر المعـرفة     ***   صدر- جديد- جديد - كتاب للدكتور دلاور صابر { بالإيمان والغذاء نؤخر شيخوخة العقل والجسد}  مزين بالصور     ***   شعارنا:    اتقان في الاختيار       جودة في الاصدار     ***   ا لقـراءة متـعة و غــذاء للـروح     ***   اطلعوا على اصداراتنا من كتب الأطفال { المعرفة للصغار }  سلاسل هادفة وتعليمية     ***   دار المعــرفة للطباعة والنشـر    :    اتـقـان في الاخـتـيـار       جــودة في الاصـدار      ***   جديد   سلسلة " السيرة النبوية الشريفة " 12/1 للأطفال مزينة بالرسوم.     ***  

مقالات
يوم الجمعة, 29 آذار 2024 

المؤلف :  د.علي محمد الصلابي
الموضوع :  بحث عام
العنوان :  الإسلام وتحرير الإنسان
التاريخ :  
13-06-2012

 

الإسلام وتحرير الإنسان:

 بدأ الإسلام بتحرير الإنسان من داخله، فحرره من العبودية لغير الله، وجعل العبودية لله وحده، ووفق ذلك لا يهون ولا يذل ما دامت عزته بالله، فمن أراد العزة بغير الله فقد أذله الله، فهذه الحرية هي الأساس لعزة المؤمنين المستمدة من عزة الله سبحانه وتعالى، وفي ذلك: ـ يقول الله عز وجل: " وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَايَعْلَمُونَ" (المنافقون ، آية : 8).

 ـ وقال تعالى: "مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ" (فاطر ، آية : 10). 

والإسلام حرر الإنسان من أمور منها: 

أ ـ تحرير النفس الإنسانية من الخوف على الحياة:

 إن الإنسان في أي زمان ومكان يخاف الموت، ولا يريده، وهذا قد يؤدي به إلى الاستعباد للأقوياء والذلة أمام الطغاة الجبابرة، لأنه لا يضعف نفس الإنسان شيء كالحرص على الحياة، والخوف من الموت، فهما يحميان الرأس ويذلان عنقه، وهذا ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عندما بين السبب الرئيس لضعف أمته وهوانها عند أعدائها مع كثرتهم وهو:

 خوف الموت: عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها، قال: قلنا يا رسول الله أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: أنتم يومئذ كثير ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل ينتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن، قال: قلنا وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت". 

أما الإنسان الذي يعلم علم يقين أن الله هو الخالق وأن الآجال بيده، كما في قوله تعالى:"وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّبِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً" (آل عمران، آية : 145). 

وكذلك يعلم أن لكل إنسان أجلاً محدوداً لا يزيد ولا ينقص فإذا جاء وقته لا يؤخر، قال تعالى:
"
وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (المنافقون، آية : 11). وأنه ليس لمخلوق قدرة على أن ينقص من هذه الحياة يوماً أو يزيدها، وأنه مهما حاول الفرار من الموت فإنه مدركه لا محالة كما هو ظاهر في قوله تعالى:" أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ" (النساء، آية : 78). 

كل هذا يجعل المسلم قوياً شجاعاً، يأبى الذل والهوان لأي مخلوق مهما كانت الظروف والأحوال لاسيما عندما يوقن في داخل نفسه أن شجاعته لا يمكن أن تنقضي من عمره لحظة واحدة، وأن الخوف والذل لا يزيد في عمره لحظة ومن هنا يتخلص المسلم من الخضوع للمتجبرين الذي يحاولون إخضاع الناس وملء قلوبهم بالرهبة وهذا ما نراه في سحرة فرعون حين آمنوا بالله الإيمان الحقيقي الذي جعلهم يستهينون بالدنيا ولم يخافوا الموت، قال تعالى: " قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" (طه، آية : 72). فهم لا يحرصون على شيء ولا يخافون من شيء وبذلك تحرروا من الذلة والعبودية لفرعون.

 ب ـ تحررها من الخوف على الرزق:

 إذا كان الخوف من الموت هو السبب الأول في ذلة الإنسان واسترقاقه، فإن السبب الثاني هو الخوف على الرزق من الانقطاع وبإلقاء نظرة على بعض الذين لم يحققوا التوحيد تحقيقاً كاملاً على أنفسهم نجدهم يسكتون عن قول كلمة الحق، ويتملقون ويداهنون ويلجأون إلى وسائل لا تليق بكرامتهم، مما يصل بهم الأمر إلى أن يعبدوا المال ويصيروا له أرقاء وعندما نبحث عن السبب نجده الحرص على رزقهم ولقمة عيشهم ظناً منهم أن عدم مناصرة الحق وأهله وذلتهم لمن هم ساكتون من أجله سيبقى لهم هذا الرزق وهذا العيش ونسوا بأن الرزق بيد الله ولذلك نجد القرآن الكريم ينكر على أولئك الذين ينتظرون الرزق من غير الله تعالى، قال تعالى:" قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ  فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ" (يونس، آية : 31).

 أما الإنسان الذي حقق التوحيد فهو يعلم أن الرزق بيد الله وحده، قال تعالى:" إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" (الذاريات، آية : 58). فالرزق لا يملكه سواه أياً كانت منزلته ومرتبته وجبروته، قال تعالى:"وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" (هود، آية : 6). 

وقال تعالى:"اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (العنكبوت، آية : 62). ولو اجتمع الخلق لينقصوا من رزقه شيئاً لم يقدروا وهذا ما بينه صلى الله عليه وسلم بقوله:" إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر برزقه وأجله وشقي أو سعيد". وهذا العلم اليقين يغنيه عن غير الله، وينزع من قلبه خوف سواه، فلا يطأطئ رأسه أمام أحد من الخلق، ولا يتضرع إليه ولا يتكفف له ولا يرتعب من كبريائه وعظمته. فالمسلم لا يستعبده المال، ولا يسترقه لأن ما يحتاجه من طعام وشراب ومسكن وغيره من الأمور التي يحتاج إليها يطلبها من الله ويرغب إليه فيها، وذلك بفعل الأسباب والسعي في طلب الرزق ومواجهة الآخرين بقلب شجاع وضمير حي، فإذا كان عنده مال استعمله في حاجته كأي شيء مهان لا قيمة له، وليس معنى هذا أن يبذر، وإنما المقصود لا يستعبده هذا المال، فلا يكون هلوعاً عليه، ولا يغلق قلبه فيما لا يحتاج إليه، لأنه إذا علق قلبه بطلب المال الكثير صار عبداً له. يقول صلى الله عليه وسلم: تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطى رضي الله وإن لم يعط لم يرض. البخاري، ك الرقاق، باب 10 (7/

175). ج ـ تحررها من الخوف على المنصب:

 إن السبب الثالث لاستعباد الناس وذلتهم إنما هو الحرص الشديد على المنصب أو المكانة الاجتماعية، فنجد بعض الناس يصب كل اهتمامه على الاحتفاظ بوظيفته مهما كانت الوسيلة مما يجعله يتزلف ويرائي من يظن أن بيده إقالته، فيعيش منحني الرأس ذليلاً مهاناً، وإعجابه بمنصبه يؤدي به إلى تقديس هذا المنصب والخوف من زواله، فتصير نفسه ذليلة لمن بيدهم سلطة عليه ويستطيعون إبقاؤه أو اسقاطه، وبذلك تستعبده نفسه، وما درى في الحقيقة أن هؤلاء الذين بيدهم السلطة هم مثله. 

يقول ابن تيمية: وكذلك طالب الرياسة والعلو في الأرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الأموال والولايات ويعفو عما يجترحونه ليطيعوه ويعينوه، وهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم. 

2-85-320-7.jpg

إن المسلم الموحد يعلم أن ما يصيبه من نفع أو ضر لا لمخلوق فيه، قال تعالى: " وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء 

مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (يونس ، آية : 107).

 إذن في نظره لا يستحق الخشية إلا الله وحده دون سواه وهو رافع رأسه دائماً حتى في أحلك الظروف لأنه يعلم أن البشر لا يملكون شيئاً في الحقيقة ولا قدرة لهم في الحياة على نفع أو ضرر، فالله سبحانه وتعالى هو الحاكم وحده، وهو القاهر فوق عباده بيده الملك، قال تعالى: " قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (آل عمران ، آية : 26). وبذلك تتربى العزة في قلبه فلا يذل مخلوق ولا يعبد إلا الله. 

س ـ تحريرها من التبعية: 

المنهج الإسلامي يحمل في طياته دعوة صريحة إلى تحرير الإنسان من التبعية للآخرين الذين قد ضلوا سواء السبيل، ويظهر ذلك جلياً من خلال الآيات القرآنية التي تبين سوء حال من كان إمعة يسير وراء الناس في ضلالاتهم من تلك الآيات، قال تعالى: "يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِيالنَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا  فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ  وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا" (الأحزاب ، آية : 66 ـ 68). 

وقد وصف القرآن الكريم أولئك الذين وقعوا أسرى العادة ومؤلوفات الآباء والأجداد بأنهم كالبهائم التي لا عقل لها، حيث يقول تعالى: "وَإِذَا قِيل لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ  آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَيَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَيَعْقِلُونَ" (البقرة ، آية : 170 ـ 171).

 فالإنسان هذه حاله لا تعتبر له شخصية مستقلة، حيث أنه لم يمنحها حقها في البحث عن الحق والصواب، وإنما حبسها بين أسوار التقليد الموروث، لذلك نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر الإنسان من أن يكون كالببغاء يردد ما يسمعه دونما فهم وإدراك، فيقول: لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا.

 ويتبين لنا أن الإسلام يريد تحرير الإنسان تحريراً مطلقاً من أية سلطة يدعيها أحد من الوصايا عليه في عقيدته، لأنه قد أعطى الإنسان حقه كاملاً في النظر بأصول العقيدة ليعرف بذلك وجه الحق الذي هو ملتزم به، ويوقن به يقيناً كاملاً، فالذي ينظر إلى هذا الكون الفسيح وما يتضمنه من عجائب يلمس قدرة الله عز وجل في كل حركة وسكون ويرى عظمة البارئ حيثما اتجه ببصره، ومن هنا تكون المعرفة حقيقية لله والتي تجعله مؤمن بخالقه وحده دون أن يتخذ معه شريكاً، فهو بعقيدته يحدد وجهته التي سيسير عليها، وهي ترك الشرك وأهله، فالمنهج الإسلامي قد دعا الإنسان إلى التحرر من الخرافة في الاعتقاد والتصور، وهذا في واقع الأمر رفع العقبات المعنوية والفكرية التي تحُولُ بين الإنسان وبين استخدام طاقته، كإنسان عاقل يملك قدرة التفكير، قد هيئت له الوسائل التي تساعده على ذلك. 

من كتاب " الحريات من القرآن الكريم"