دار المعـرفة للطباعة والنشر   ترحب بكم     ***   ** جديد **  بعون الله تعالى صدرت (موسوعة الكلمة وأخواتها في القرآن الكريم )12/1 للشيخ الدكتور أحمد الكبيسي     ***   بعون الله تعالى صدرت (مــوســوعـة المعجم المفــهـرس لألفاظ الحديث النبوي الشريف) ضمن 21 مجلد  - لأول مرة في العالم الإسلامي بمنهج علمي موحد     ***   50 عاماً في نشر المعـرفة * * * 50  عاماً في نشر المعـرفة     ***   صدر- جديد- جديد - كتاب للدكتور دلاور صابر { بالإيمان والغذاء نؤخر شيخوخة العقل والجسد}  مزين بالصور     ***   شعارنا:    اتقان في الاختيار       جودة في الاصدار     ***   ا لقـراءة متـعة و غــذاء للـروح     ***   اطلعوا على اصداراتنا من كتب الأطفال { المعرفة للصغار }  سلاسل هادفة وتعليمية     ***   دار المعــرفة للطباعة والنشـر    :    اتـقـان في الاخـتـيـار       جــودة في الاصـدار      ***   جديد   سلسلة " السيرة النبوية الشريفة " 12/1 للأطفال مزينة بالرسوم.     ***  

مقالات
يوم الجمعة, 26 نيسان 2024 

المؤلف :  د.علي محمد الصلابي
الموضوع :  اسلاميات
العنوان :  حرية التعبير في عهد الخلفاء الراشدين
التاريخ :  
18-12-2013

حرية التعبير في عهد الخلفاء الراشدين:

أ ـ في عهد أبي بكر رضي الله عنه:

ــ خطبة أبي بكر عندما تولى الخلافة تعد دستوراً للنقد البناء وتدريباً على حرية التعبير وحق الأمة في مراقبة الحاكم ومحاسبته، ومما جاء في الخطبة قول أبي بكر رضي الله عنه: فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني.
فهذا الصديق يقرّ بحق الأمة وأفرادها في الرقابة على أعماله ومحاسبته عليها، بل وفي مقاومته لمنع كل منكر يرتكبه وإلزامه بما يعتبرونه الطريق الصحيح والسلوك الشرعي.

وقد أقر الصديق في بداية خطابه للأمة، إن كل حاكم معرض للخطأ والمحاسبة، وأنه لا يستمد سلطته من أي امتياز شخصي يجعل له أفضلية على غيره، لأن عهد الرسالات والرسل المعصومين قد انتهى، وأن آخر رسول كان يتلقى الوحي انتقل إلى جوار ربه، وقد كانت له سلطة دينية مستمدة من عصمته كنبي ومن صفته كرسول يتلقى التوجيه من السماء، ولكن هذه العصمة انتهت بوفاته، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم أصبح الحكم والسلطة مستمدة من عقد البيعة وتفويض الأمة له.

إن الأمة في فقه أبي بكر لها إدارة حية واعية لها القدرة على المناصرة والمناصحة والمتابعة والتقويم.
ولقد استقر في مفهوم الصحابة أن بقاء الأمة على الاستقامة رهن باستقامة ولاتها ولذلك كان من واجبات الرعية تجاه حكامهم ونصحهم وتقويمهم ولقد أخذت الدولة الحديثة تلك السياسة الرائدة للصديق رضي الله عنه وترجمت ذلك إلى لجان متخصصة ومجالس شورية تمد الحاكم بالخطط، وتزوده بالمعلومات، وتشير عليه بما يحسن أن يقرره والشيء المحزن أن كثيراً من الدول الإسلامية تعرض عن هذا النظام الحكيم فعظم مصيبتها في تسلط الحكام وجبروتهم، والتخلف الذي يعم معظم ديار المسلمين ما هو إلا نتيجة لتسلط بغيض، "ودكتاتورية" لعينة، أماتت في الأمة روح التناصح والشجاعة، وبذرت فيها، وزرعت بها الجبن والفزع إلا من رحم ربي، وأما الأمة التي تقوم بدورها في مراقبة الحاكم ومناصحته تأخذ بأسباب القوة التمكين في الأرض، فتنطلق إلى آفاق الدنيا تبلغ دعوة الله.

ب ـ في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

كان عمر رضي الله عنه يترك الناس يبدون آراءهم السديدة ولا يقيدهم ولا يمنعهم من الإفصاح عما تكنه صدورهم ويترك لهم فرصة الاجتهاد في المسائل التي لا نص فيها، فعن عمر أنه لقي رجلاً فقال: ما صنعت؟ قال: قضى علي وزيد بكذا، قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال: فما منعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكني أردك إلى رأي، والرأي مشترك ما قال علي وزيد، وهكذا ترك الفاروق الحرية للصحابة يبدون آراءهم في المسائل الاجتهادية، ولم يمنعهم من الاجتهاد، ولم يحملهم على رأي معين.

ـ وكان النقد أو النصح للحاكم في عهد الفاروق والخلفاء الراشدين مفتوحاً على مصرعيه، فقد قام الفاروق رضي الله عنه يخطب، قال: أيها الناس، من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقومه، فقام له رجل وقال: والله لو رأينا فيك أعوجاجاً لقومناه بسيوفنا، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوّم اعوجاج عمر بسيفه.

وقد جاء في خطبة عمر لما تولى الخلافة: أعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واحضاري النصيحة.

واعتبر الفاروق ممارسة الحرية السياسية البناءة "النصيحة" تعد واجباً على الرعية، ومن حق الحاكم أن يطالب بها: أيها الرعية، إن لنا عليكم حقاً: النصيحة بالغيب والمعاونة على الخير.
وكان يرى أن من حق أي فرد في الأمة أن يراقبه ويقوّم اعوجاجه ولو بحد السيف إن هو حاد عن الطريق، فقال: أيها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقومه.
وكان يقول: أحب الناس إليّ من رفع إليّ عيوبي، وقال أيضاً: إني أخاف أن أخطي فلا يردني أحد منكم تهيبأ مني، وجاء يوماً رجل فقال له على رؤوس الأشهاد: اتق الله يا عمر، فعقب بعض الحاضرين من قوله وأرادوا أن يسكتوه عن الكلام، فقال لهم عمر: لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها.

ووقف ذات يوم يخطب في الناس وعليه ثوب طويل، فما كاد يقول: أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا، حتى قاطعه أحدهم قائلاً: لا سمع ولا طاعة يا عمر، فقال عمر بهدوء: لم يا عبد الله؟ قال: لأن كلاً منا أصابه قميص واحد من القماش لستر عورته، فقال له عمر: مكانك، ثم نادى ولده عبد الله بن عمر، فشرح عبد الله أنه قد أعطى اياه نصيبه من القماش ليكمل به ثوبه، فاقتنع الصحابة، وقال رجل في احترام وخشوع: الآن السمع والطاعة يا أمير المؤمنين، وخطب ذات يوم، فقال: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية، وإن كانت بنت ذي القصّة ـ يعني يزيد بن الحصين ـ فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال فقالت امرأة معترضة على ذلك: ما ذاك لك، قال: ولم؟ قالت: لأن الله ـ تعالى ـ قال:" وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً" (النساء، آية : 20).
فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ،

وجاء في رواية أنه قال: اللهم غفراً، كل إنسان أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر فقال: أيها الناس، إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب وطابت به نفسه فليفعل.2-85-320-7.jpg

ج - في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

كان لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه أقوال تدافع عن الحريات ومواقف تدعم هذا المبدأ في المجتمع الإسلامي فمن أقواله: بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد، وقوله الموجز هذا يدل على أن الاعتداء على الناس كافة بأي شكل كان غير جائز في الإسلام وذكر المعتدين بعذاب الله يوم القيامة، وعرف عنه قوله: ليس من العدل القضاء على الثقة بالظن، وقوله هذا يدل دلالة واضحة على أنه ليس من الجائز أخذ الناس بالشبهات والحكم عليه لمجرد الظنون والشكوك، بل ينبغي أن يكون ذلك بـ "الثقة" أي باليقين المستند إلى أدلة دامغة وأكيدة لا تقبل الجدل حولها، وخير هذه الأدلة ما نصت عليه الشريعة، وبذلك يكون المبدأ الذي أقرته التشريعات الجزائية الحديثة القائل بأن المتهم يبقى بريئاً حتى إثبات العكس قد عرفه الإسلام منذ أمد بعيد، وقد تجلى مبدأ الحرية على أروع صورة ومعانيه أيام علي رضي الله عنه، فبالرغم من وجود ظروف استثنائية، فتن ومؤامرات، وحروب تبرر الحاجة إلى تقييد حرية الأفراد في ذهابهم وإيابهم وإقامتهم، وما يسمى في العصر الحديث بقانون الطوارئ إلا أن علياً لم يقيد حرية أحد سواء كان من اتباعه أم من خصومه، ولم يكره أحد على الإقامة والبقاء في ظل سلطانه أو على الخروج منه، ولا حتى على المسير معه لمقاتلة أهل الشام عندما رفضوا ذلك، بل سمح لهم بالذهاب لبعض الثغور نزولاً على رغبتهم، وعندما ثار عليه الخوارج بعد معركة صفين بسبب قبول التحكيم، فإنه لم يكره أحداً منهم على البقاء في ظل سلطانه أو الخروج منه، بل بالعكس فقد كان يأمر عماله بعدم التعرض لهم في طريقهم ماداموا لا يفسدون في الأرض ولا يعتدون على الناس، وقال لهم: ..إن لكم عندنا ثلاثاً، لا نمنعكم صلاة في هذا المسجد، ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا.

فقد سلم لهم أمير المؤمنين بهذه الحقوق ماداموا لم يقاتلوا الخليفة، أو يخرجوا على جماعة المسلمين مع احتفاظهم بتصوراتهم الخاصة في إطار العقيدة الإسلامية فهو لا يخرجهم بداية من الإسلام، وإنما يسلم لهم بحق الاختلاف دون أن يؤدي إلى الفرقة وحمل السلاح، ولم يزج أمير المؤمنين بالخوارج في السجون أو يسلط عليهم الجواسيس، ولم يحجر على حرياتهم.

قال عبد الله بن شداد: فوالله ما قتلهم حتى قطعوا السبيل، وسفكوا الدم الحرام.

يقول فهمي هويدي: وبرغم الموقف الحاد من المعارضة والإنكار الذي اتخذه الخوارج من الإمام علي، طوال سنوات حكمه، فإنه قال لهم في صراحة وجلاء: لكم علينا ثلاث: ألا نمنعكم من المساجد، ولا من رزقكم في الفيء، ولا نبدأكم بقتال ما لم تحدثوا فساداً أي أنه ضمن لهم حرية العبادة في مساجد المسلمين وإن خالفوه في الرأي، كما ضمن لهم حقوقهم المدنية الأخرى بما في ذلك أنصبتهم من الغنائم ما لم يبدأوهم بالعدوان وإحداث الفساد.
من كتاب الحريات من القرآن الكريم – للدكتور علي الصلابي