دار المعـرفة للطباعة والنشر   ترحب بكم     ***   ** جديد **  بعون الله تعالى صدرت (موسوعة الكلمة وأخواتها في القرآن الكريم )12/1 للشيخ الدكتور أحمد الكبيسي     ***   بعون الله تعالى صدرت (مــوســوعـة المعجم المفــهـرس لألفاظ الحديث النبوي الشريف) ضمن 21 مجلد  - لأول مرة في العالم الإسلامي بمنهج علمي موحد     ***   50 عاماً في نشر المعـرفة * * * 50  عاماً في نشر المعـرفة     ***   صدر- جديد- جديد - كتاب للدكتور دلاور صابر { بالإيمان والغذاء نؤخر شيخوخة العقل والجسد}  مزين بالصور     ***   شعارنا:    اتقان في الاختيار       جودة في الاصدار     ***   ا لقـراءة متـعة و غــذاء للـروح     ***   اطلعوا على اصداراتنا من كتب الأطفال { المعرفة للصغار }  سلاسل هادفة وتعليمية     ***   دار المعــرفة للطباعة والنشـر    :    اتـقـان في الاخـتـيـار       جــودة في الاصـدار      ***   جديد   سلسلة " السيرة النبوية الشريفة " 12/1 للأطفال مزينة بالرسوم.     ***  

مقالات
يوم الجمعة, 29 آذار 2024 

المؤلف :  د.علي محمد الصلابي
الموضوع :  اسلاميات
العنوان :  مناظرة ابن عباس للخوارج
التاريخ :  
18-08-2014

مناظرة ابن عباس للخوارج

انفصل الخوارج في جماعة كبيرة من جيش أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أثناء عودته من صفين إلى الكوفة، قدرعددها في رواية ببضعة عشر ألفاً، وحدد في رواية باثني عشر ألفاً[1]، وفي رواية بثمانية آلاف[2]، وفي رواية بأنهم أربعة عشر ألفاً، وقد انفصل هؤلاء عن الجيش قبل أن يصلوا إلى الكوفة بمراحل، وقد أقلق هذا التفرق أصحاب علي وهالهم.Salladi_alli3.jpg

وسار علي رضي الله عنه وأرضاه بمن بقي من جيشه على طاعته حتى دخل الكوفة، وانشغل أمير المؤمنين بأمر الخوارج خصوصاً بعدما بلغه تنظيم بجماعتهم من تعيين أمير للصلاة وآخر للقتال، وأن البيعة لله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يعني انفصالهم فعلياً عن جماعة المسلمين، وكان أمير المؤمنين علي حريصاً على إرجاعهم بجماعة المسلمين،

فأرسل ابن عباس إليهم لمناظرتهم، وهذا ابن عباس يروي لنا الحادثة، فيقول: ... فخرجت إليهم ولبست أحسن ما يكون من حلل اليمن، وترجلت، ودخلت عليهم في دار نصف النهار، وكان ابن عباس رجلاً جميلاً جهيراً، فقالوا: مرحباً بك يا ابن عباس، ما هذه الحلة؟ قال: ما تعيبون علي؟ لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من الحلل، ونزلت: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32].

قالوا: فما جاء بك؟ قال: قد أتيتكم من عند صحابة النبي من المهاجرين والأنصار، من عند ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصهره، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد، لأبلغكم ما يقولون، وأبلغهم ما تقولون، فانتحى لي نفر منهم.


قلت: هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه، قالوا: ثلاث، قلت: ما هن؟ قالوا: أما إحداهن: فإنه حكم الرجال في أمر الله، إن الحكم إلا لله، ما شأن الرجال والحكم؟ قلت: هذه واحدة، فما الثانية؟ قالوا: وأما الثانية فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، فإن كانوا كفاراً لقد حل سبيهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حل سبيهم ولا قتلهم.

قلت: هذه اثنتان فما الثالثة؟ قالوا: محا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين، قلت: هل عندكم شيءغير هذا؟، قالوا: حسبنا هذا، قلت لهم: أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله جل ثناؤه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد قولكم أترجعون؟ قالوا: نعم.

قلت: أما قولكم: حكم الرجال في أمر الله، فإني أقرأ عليكم من كتاب الله أن قد صير الله حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم، فأمر الله تبارك وتعالى أن يحكموا فيه، أرأيت قول الله تبارك وتعالى: {ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم} [المائدة: 95]، وكان من حكم الرجال، أنشدكم بالله أحكم الرجال في صلاح ذات البين، وحقن دمائهم أفضل أو في أرنب؟ قالوا: بلى، بل هذا أفضل، قلت: وفي المرأة وزوجها {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} [النساء: 35]، فنشدتكم بالله حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة، خرجت من هذه؟ قالوا: نعم.

قلت: وأما قولكم قاتل ولم يسب، ولم يغنم، أفتسبون أمكم عائشة، تستحلون منها ما تستحلون من غيرها وهي أمكم؟ فإن قلتم: إنا نستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم، وإن قلت: ليست بأمنا فقد كفرتم {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6]، فأنتم بين ضلالتين فأتوا منها بمخرج، أفخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.

وأما محا نفسه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بما تضرون، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين، فقال لعلي: «اكتب يا علي هذا ما صالح عليه محمد رسول الله»، قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «امح يا علي، اللهم إنك تعلم أني رسول الله، امح يا علي واكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله »، والله لرسول الله صلى الله عليه وسلم خير من علي، وقد محا نفسه، ولم يكن محوه نفسه ذلك محاه من النبوة أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.

فرجع منهم ألفان وخرج سائرهم، فقاتلوا على ضلالتهم، قتلهم المهاجرين والأنصار[3].

نستخرج من مناظرة ابن عباس للخوارج مجموعة من الدروس والعبر والحكم منها:Hardcover-Boook.jpg

1 - حسن الاختيار لمن سوف يقوم بالمناظرة مع الخصم: فقد اختار أمير المؤمنين علي ابن عمه عبد الله بن عباس، وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، لأن القوم كانوا يعرفون بالقرآن، ويعتمدون في الاستدلال على معتقدهم بالقرآن، لذا كان أولى الناس بمناظرتهم هو أدرى الناس بالقرآن وبتأويله، ويمكن القول بأن ابن عباس رضي الله عنه، هو صاحب الاختصاص في هذه المناظرة، لما يتحلى به من إخلاص النية لله، واجتناب الهوى، والتحلي بالحلم والصبر، والتريث والترفق بالخصم، وحسن الاستماع لكلام الخصوم، وتجنب المماراة، ووضوح الحجة وقوة الدليل.

2 - الابتداء مع الخصم من نقاط الاتفاق: فقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وخصومه من الخوارج متفقين على الأخذ من كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان عبد الله بن عباس رضي الله عنه، حيث قال لهم: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد قولكم أترضون؟ ومع هذا فإن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يستوثق منهم بداية المناظرة.

3 - معرفة ما عند الخصم من الحجج واستقصاؤها: والاستعداد لها قبل بداية المناظرة، ونتوقع أن أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه علم بحججهم قبل مناظرتهم، وقرر لأصحابه كيفية الرد عليها.

4 - تفنيد مزاعم الخصم واحدة تلو الأخرى: حتى لا يبقى لهم حجة كما يتضح من كلام ابن عباس رضي الله عنه في مناظرته لهم كلما فرغ من تفنيد حجة قال: أخرجت من هذه؟.

5 - التقديم للمناظرة بما يخدم نتيجتها لصالح الحق: فإن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال في بداية الأمر وقبل مناظرة: أتيتكم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وصهره وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم أحد منهم[4].

6 - إظهار احترام رأي الخصم أثناء المناظرة: ليكون أدعى لسماع كل ما عنده، وأن يحمله على احترام رأيه، وهذا ما ظهر من مناظرة ابن عباس للخوارج[5].

7 - وقد وفق الله عز وجل الآلاف من هؤلاء: إذ بلغ عدد من شهد معركة النهروان منهم أقل من أربعة آلاف - كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى - وذلك عندما عرفوا الحق، وزالت عنهم الشبهة بفضل الله، ثم بفضل ما أوتيه ابن عباس من علم وقوة وحجة وبيان، إذ وضح لهم بطلان ما احتجوا به، بتفسير الآيات التي تأولها التفسير الصحيح، وبالسنة النبوية المشرفة والتي توضح معاني القرآن الكريم[6].

8 - قول ابن عباس: وليس فيكم منهم أحد[7]: هذا نص صريح من ابن عباس في كون الخوارج لا يوجد فيهم أحد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يعترض عليه أحد من الخوارج والرواية صحيحة وثابتة، كما أنه لا يوجد أحد من علماء أهل السنة - على حد علمي - قال بأن الخوارج كان فيهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الزعم بأن الخوارج كان فيهم بعض الصحابة فذلك عند المذهب الخارجي وليس لهم دليل علمي موثوق على قولهم.

9 - تحديد المرجعية: في قول ابن عباس: أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله جل ثناؤه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد قولكم أترجعوه؟ قالوا: نعم.
ففي كلام ابن عباس هذا درس مهم ألا وهو تحديد المرجعية للمتناظرين حتى يمكن الوصول إلى نتيجة صحيحة من خلال المناظرة.

 



[1] تاريخ بغداد (1/160).

 [2] البداية والنهاية (7/280، 281)، إسناده صحيح، مجمع الزوائد (6/235).

[3] خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للنسائي، تحقيق أحمد البلوشي، ص(200) إسناده حسن.

 [4] خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للنسائي، ص(197) إسناده حسن.

 [5] منهج علي بن أبي طالب في الدعوة إلى الله، ص(339).

 [6] خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد، ص(307).

 [7] خصائص علي بن أبي طالب للنسائي، ص(200) إسناده حسن، للبلوشي.